مدونة جعفر عبد الكريم الخابوري
الأحد مايو 14, 2023 7:37 pm
في العقود
يرد في دعاء يوم الإثنين، المنسوب للإمام علي ابن الحسين السجاد عليهما السلام:
"أَللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَغْفِرُكَ لِكُلِّ نَذْر نَذَرْتُهُ،
وَلِكُلِّ وَعْد وَعَدْتُهُ،
وَلِكُلِّ عَهْد عاهَدْتُهُ،
ثُمَّ لَمْ أَفِ لَكَ(١) بِهِ".
هذه ثلاث صورٍ تعاقدية، ربما تختلف أو تتفق في الوهلة الأولى، حسب الجهة المتعاقد معها اعتباراً. وتختلف كذلك حسب موضوع التعاقد.
فالنذر لا يكون مع غيره سبحانه وتعالى. فيصبح ملزماً بانعقاده وتحقق متعلقه، وإن قيل بكراهة اللجوء إلى النذر ابتداءاً. وهو التزام من العبد مع خالقه، بالقيام بعمل ما- من صيامٍ او إنفاقٍ مثلاً- قبالة استجابته جل وعلا لحاجة توسل لها العبد بنذره.
والوعد من الممكن أن يكون مع طرف أعلى أو مماثل أو أدنى. والأخير أقرب للذهن عادة، كما هو ظاهر العديد من الشواهد القرآنية، وفي مجمل الوعود البشرية- خاصة ما يعده الآباء لصغارهم والمسئولين لمرؤسيهم.
في حين يجري العهد من العبد مع الله، ويسري كذلك بين المتماثلين والأتراب، كما هو حال المعاهدات بين الدول ومثله أيضاً بين الكيانات غير الرسمية كالقبائل. والتعاقدات اليومية المعهودة بين الناس تُعدُّ من هذا السنخ عادة، كما هو جارٍ في عقود العمل والإجارة والبيع وأمثالها.
في الثقافة الإسلامية، تحتل العقود مكانة مهمة. يعكس ذلك ما تحفل به العديد من الشواهد القرآنية والروائية من اعتناء بهذه الجنبة، وتأكيد على الإيفاء بها.
من ذلك ما جاء في مطلع آخر سورة نزلت من القرآن الكريم، أي المائدة(٢):
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ"(المائدة 1).(٣)
ونقرأ كذلك:
"وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً"
(الاسراء:34).
سورة براءة، كانت نذيراً وإعلانَ حرب شديد، وتميزت عن سور القرآن الأخرى بخلوها من بسملة الرحمة(بسم الله الرحمن الرحيم). مع ذلك، نجد في ظاهر هذه السورة استثناءاً نوعياً لتعاقدات الكيان الإسلامي مع الأطراف الأخرى، ذات العلاقة مع موضوع السورة. ويعُدُّ الوفاءَ بمعطيات تلك التعاقدات حالةً تقوائية:
"إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" (براءة 4).
روائياً، يرد عنه صلّى الله عليه وآله وسلم:
"ثلاثة ليس لأحد فيهن رخصة: الوفاء لمسلم كان أو كافر، وبر الوالدين مسلمين كانا أو كافرين، وأداء الأمانة لمسلم كان أو كافر"(٤).
في هذه العجالة، نشير لأمرين. الأول، أن الإيفاء بالعقود لا يرتبط بشكل التوثيق، أي هل كان مكتوباً أم لم يكن كذلك. نعم، التوثيق أصبح ضرورة قانونية، بل ومما حث عليه كتاب الله، فيما نقرأه في آية الدَّين(البقرة 282).
إنما للكلمة موقعها، يُبنى عليها ويُلتزم بها. وعدم وجود الإثبات القانوني الخارجي، لا ينفي ثبوت الوعد الشفوي واقعاً لدى الإنسان المؤمن:
"بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ" (القيامة 14& 15).
بالتالي، أي الأمر الثاني، ينبغي عدم الإستعجال في إطلاق الوعود للآخرين واستسهال ذلك. وكما قيل (المسئول حرٌ حتى يعد).
الوفاء بالعقود فيه حفظ للنظام العام وبناءٌ للثقة بين الناس وتيسير جريان مصالحهم. من ناحية أخرى، هو مظهر جميل جذاب لصورة الثقافة الإسلامية، الواقعية الأصيلة التي تترجمها مواقف وسلوكيات المؤمنين. كما أن في الصبر وتحمل المشقة، الذي يحتاجه الوفاء عادة، تربية للفرد المؤمن وتهذيب لشخصيته المنضبطة ذات الإعتمادية العالية... والحسن منك أحسن (لأنك منا).
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
والحمد لله وحده.
----------------------
(١) يُلحظ في العديد من نسخ الأدعية الحديثة اختفاء كلمة(لك) منها. في حين أنها كانت موجودة في النسخ القديمة من الصحيفة السجادية الشريفة، ومنها تلك التي كانت لدى الوالد رحمه الله في أواخر ستينات القرن الماضي كما أتذكر. وواقع الأمر أن هذه الأنواع الثلاثة تقع في حقيقتها من المسلم مع ربه سبحانه وتعالى.
(٢) على المشهور.
(٣) من الملفت أن تتضمن سياقات سورة المائدة، الآيات التي تتحدث عن إكمال الدين وإتمام النعمة وما اتصل منها بواقعة غدير خم وبيعة امير المؤمنين عليه السلام. وهل البيعة سوى عقد؟
(٤) موقع المعارف للثقافة الإسلامية.
يرد في دعاء يوم الإثنين، المنسوب للإمام علي ابن الحسين السجاد عليهما السلام:
"أَللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَغْفِرُكَ لِكُلِّ نَذْر نَذَرْتُهُ،
وَلِكُلِّ وَعْد وَعَدْتُهُ،
وَلِكُلِّ عَهْد عاهَدْتُهُ،
ثُمَّ لَمْ أَفِ لَكَ(١) بِهِ".
هذه ثلاث صورٍ تعاقدية، ربما تختلف أو تتفق في الوهلة الأولى، حسب الجهة المتعاقد معها اعتباراً. وتختلف كذلك حسب موضوع التعاقد.
فالنذر لا يكون مع غيره سبحانه وتعالى. فيصبح ملزماً بانعقاده وتحقق متعلقه، وإن قيل بكراهة اللجوء إلى النذر ابتداءاً. وهو التزام من العبد مع خالقه، بالقيام بعمل ما- من صيامٍ او إنفاقٍ مثلاً- قبالة استجابته جل وعلا لحاجة توسل لها العبد بنذره.
والوعد من الممكن أن يكون مع طرف أعلى أو مماثل أو أدنى. والأخير أقرب للذهن عادة، كما هو ظاهر العديد من الشواهد القرآنية، وفي مجمل الوعود البشرية- خاصة ما يعده الآباء لصغارهم والمسئولين لمرؤسيهم.
في حين يجري العهد من العبد مع الله، ويسري كذلك بين المتماثلين والأتراب، كما هو حال المعاهدات بين الدول ومثله أيضاً بين الكيانات غير الرسمية كالقبائل. والتعاقدات اليومية المعهودة بين الناس تُعدُّ من هذا السنخ عادة، كما هو جارٍ في عقود العمل والإجارة والبيع وأمثالها.
في الثقافة الإسلامية، تحتل العقود مكانة مهمة. يعكس ذلك ما تحفل به العديد من الشواهد القرآنية والروائية من اعتناء بهذه الجنبة، وتأكيد على الإيفاء بها.
من ذلك ما جاء في مطلع آخر سورة نزلت من القرآن الكريم، أي المائدة(٢):
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ"(المائدة 1).(٣)
ونقرأ كذلك:
"وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً"
(الاسراء:34).
سورة براءة، كانت نذيراً وإعلانَ حرب شديد، وتميزت عن سور القرآن الأخرى بخلوها من بسملة الرحمة(بسم الله الرحمن الرحيم). مع ذلك، نجد في ظاهر هذه السورة استثناءاً نوعياً لتعاقدات الكيان الإسلامي مع الأطراف الأخرى، ذات العلاقة مع موضوع السورة. ويعُدُّ الوفاءَ بمعطيات تلك التعاقدات حالةً تقوائية:
"إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" (براءة 4).
روائياً، يرد عنه صلّى الله عليه وآله وسلم:
"ثلاثة ليس لأحد فيهن رخصة: الوفاء لمسلم كان أو كافر، وبر الوالدين مسلمين كانا أو كافرين، وأداء الأمانة لمسلم كان أو كافر"(٤).
في هذه العجالة، نشير لأمرين. الأول، أن الإيفاء بالعقود لا يرتبط بشكل التوثيق، أي هل كان مكتوباً أم لم يكن كذلك. نعم، التوثيق أصبح ضرورة قانونية، بل ومما حث عليه كتاب الله، فيما نقرأه في آية الدَّين(البقرة 282).
إنما للكلمة موقعها، يُبنى عليها ويُلتزم بها. وعدم وجود الإثبات القانوني الخارجي، لا ينفي ثبوت الوعد الشفوي واقعاً لدى الإنسان المؤمن:
"بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ" (القيامة 14& 15).
بالتالي، أي الأمر الثاني، ينبغي عدم الإستعجال في إطلاق الوعود للآخرين واستسهال ذلك. وكما قيل (المسئول حرٌ حتى يعد).
الوفاء بالعقود فيه حفظ للنظام العام وبناءٌ للثقة بين الناس وتيسير جريان مصالحهم. من ناحية أخرى، هو مظهر جميل جذاب لصورة الثقافة الإسلامية، الواقعية الأصيلة التي تترجمها مواقف وسلوكيات المؤمنين. كما أن في الصبر وتحمل المشقة، الذي يحتاجه الوفاء عادة، تربية للفرد المؤمن وتهذيب لشخصيته المنضبطة ذات الإعتمادية العالية... والحسن منك أحسن (لأنك منا).
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
والحمد لله وحده.
----------------------
(١) يُلحظ في العديد من نسخ الأدعية الحديثة اختفاء كلمة(لك) منها. في حين أنها كانت موجودة في النسخ القديمة من الصحيفة السجادية الشريفة، ومنها تلك التي كانت لدى الوالد رحمه الله في أواخر ستينات القرن الماضي كما أتذكر. وواقع الأمر أن هذه الأنواع الثلاثة تقع في حقيقتها من المسلم مع ربه سبحانه وتعالى.
(٢) على المشهور.
(٣) من الملفت أن تتضمن سياقات سورة المائدة، الآيات التي تتحدث عن إكمال الدين وإتمام النعمة وما اتصل منها بواقعة غدير خم وبيعة امير المؤمنين عليه السلام. وهل البيعة سوى عقد؟
(٤) موقع المعارف للثقافة الإسلامية.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى