مدونة جعفر عبد الكريم الخابوري
الأحد مايو 14, 2023 7:19 pm
إخوة السّماء
في إحدى القرى الصغيرة في هولندا ، و في أواسط القرن التاسع عشر ، عاش راعي رعية مع زوجته ، و كانت أحلامهم كبساطة السهول حولهم و ٱمالهم معلقة بنجمة في السماء تتجسد بصورة طفل ينير ما هو ٱتٍ من أيامهم ؛ اسم هذا المعلم كان "ويليام فان چوخ" .
و استجابت السماء و منحتهم طفلا ذكرا ، سمّوه "ڤِنسنت" ، أنار حياتهم للحظات ثم توفّته السماء و خبا نجمه ، لكن نوره -على خفوته- بقي كذكرى من مرارة و أمل . و في ذات التاريخ ، إنما بعد سنة ، سطع النجم مرة ثانية في حياتهم بنور طفل ، حمل كل ميراث أخيه من المهد و الملبس حتى الاسم ! و ما بين أفول نجم و سطوعه ، اشتعلت في روح الصغير حرب لعمر يأتي ، اسمها الصغير كان الحيرة ، و اسمها الكبير الجنون .
عاش ڤنسنت في الأرض سبعات خمسة من السنين بعد أن بدأت ذاكرته بالتخلق بعد سنيه الأولى ، لكن سبعاته الثلاثة الأولى كانت عجافاً . عنوان فترة طفولته مع المدرسة كان النفور ؛ نفوره من التعليم النمطي القاسي ، و نفور الآخرين من روح تمرده و "عصبيته" . هذا انتهى به إلى مفارقة مقاعد الدراسة خلال سبعتين من العمر . و في السنين السبعة التالية ، حاول ڤنسنت بتشجيع من أخيه الأصغر ثيودور أن يعمل في مجال التجارة الفنية . هذه كانت اللبنة الأولى في معرض تعرفه على أنماط الفنون في ذلك الزمان ، و على مساحة جغرافية انتقلت به بين هولندا و انكلترا و فرنسا . لكن هذا النفور المتبادل مع البشر ، خاصة في مجال تجاري ، أبسط عناوينه النفعية و المادية ، كان يصبح أعظم و ينتهي بروح ڤنسنت في حالة من العزلة في هذا الفيض من البشر ؛ الصورة الوحيدة التي كانت له التشجيع و التفهم و الحنان هي صورة أخيه "ثيو" .
مع نهاية السبعات العجاف و بداية السبعة الرابعة ، كانت رياح العمر قد ألقت بفنسنت إلى لندن ، و هناك كان في النفس حنين لصورة أبيه كمعلم ! هذا جعله يتفرغ لعلوم الدين ، فقرأ كل الكتب السماوية ، و تفانى في خدمة الرعية و التقرب من شخوص تلك المؤسسات ، و كان أول ما كلف به حلقة تعليم للأطفال الصغار ، و كانت هذه قمة السعادة لروحه و السطوع لنجمه ، حينما تحملت الأيام طبعه الناري و أوصلته لحلمه بصورة أبيه .
لكن هذا لم يدم طويلاً ، فحدّته و حدّيته و انتقاده اللاذع للكثير من الممارسات أدّت إلى حالة من الصراع مع كل من كان في طريق حياته من البشر ، حتى في مؤسسة رعوية تبشيرية . في بعض لوحات حياته ، كان يعطي كل ما ملك للمحتاجين ، و كان رد فعل المؤسسة الدينية على ذلك الجحود و التهميش ! هذا انتهى به منفياً في بلده مرة ثانية . و كمحاولة لإثبات الذات ، عاد إلى مقاعد الدرس في منتصف السبعة الرابعة من عمره لتعلم اللاهوت أصولاً ، لكنه لم يحتمِل ، و لم يُحتمَل ، لأكثر من سنة و نصف ! التزم فنسنت بعد ذلك بخدمة عمال المناجم و عائلاتهم في فرنسا ، و زاد تعلقه بهم و علا صوته في الدفاع عن مصالحهم ، حتى ضاق ذرع المؤسسة الدينية به ، و طردته نهائياً من خدمة البشر . جاهد فنسنت في سبيل الإبقاء على الاتصال مع المحتاجين ، لكن الفقر و الفاقة انتهيا به إلى ما يشبه معتزلات في قرى صغيرة ، و حالة من العوز و العزلة لأكثر من سنة .
ربما ما خطر ببال فنسنت يومها أن ما بقي من العمر إنّما هو سنوات عشر ، لكنه بالتأكيد لم يكن يرغب في يومه أن يرى الغد . صلته الوحيدة مع الكوكب كانت أخيه ثيو ، و في كل حرف كتبه في رسائلهما كانت دقائق عمره تزيد واحدة . أودع ڤنسنت كل ما كان على تلك الرقعة من الزمان من المصحات و المشافي النفسية و العقلية ، و حُجر عليه عدة مرّات ثم أطلق سراحه على وقع محاولات لأذى الذات أو شبهة انتحار . كانت روح ثيو ملازمة لروحه ، حتى أنه لبى نداء أخيه بالسفر إلى باريس ، و سكنا معاً و معهم زوجة ثيو "جوانا" و ابنهما الصغير الذي سمياه "ڤنسنت" تيمناً بعمّه .
قبل فنسنت تمويل أخيه له ، و عاد إلى مقاعد الدرس ، لكن هذه المرة لدراسة الفن ، و بتشجيع من ثيو و بعض رسامي ذلك الزمان استطاع أن يخطّ لوحاته الأولى التي لقيت نجاحاً في الأرض ما توقعه فنسنت يوماً ؛ حتى تلك اللوحات كانت عن الفلاحين و من صور معاناتهم ! كان ردّ فعله على أي انتقاد عنيفاً و كاسحاً ، لكنه مر بفترات من الرّضا ، و مع أنّه كان يرفض أي تغيير في منهج رسمه الواقعي (الأميل للمدرسة الوحشية / الصارخة) لحدّة طبعه و نفوره من تسلط الآخرين ، إلا أن لطف و عمق بعض رسامي ذلك الزمان من المدرسة الانطباعية جعلته يلين في رسمه حتى دمج في أواخر لوحاته أجمل الصور الارتجالية الوحشية في شكل تقديمي انطباعي فريد و أثير .
مع الأيام ، كانت نوب الجنون تعلو و تخبو ، لكنها كانت مع كل معاودة تصبح أعلى و أصخب ، و مع نهاية السبعة الخامسة ، أطلق فنسنت طلقة في صدره ، أسكنها قرب القلب ، كمّن يعطي لنفسه الوقت لتوديع لوحته الأخيرة ، و تلك كانت وجه أخيه ثيو . استطاع ڤنسنت مع الرصاصة في صدره أن يصمد زهاء يومين ليتحرك بين قريتين و يستدعي أخيه ليرتحل بين مدينتين ، ليودع الدنيا بين يديه . آخر جملة قالها فنسنت لأخيه : "الحزن يستمر إلى الأبد" !
حاول ثيو أن يدفن أخيه في مدافن العائلة ، لكن المؤسسة الدينية رفضت لأنه منتحر ، فدفن في مقبرة غرباء . بعد ذلك بستة أشهر مات ثيو ، و دفن بعيداً عن أخيه ، حتى قامت جوانا زوجته بنقل جثمانه إلى جانب أخيه بعد عقدين من الزمن لترتاح روحيهما باللقاء على الأرض و في السماء . جلّ ما نعرفه عن عبقرية تلك الأرواح هو ما نقلته جوانا ، زوجة ثيو ، و قارب الثمانمئة لوحة و السبعمئة رسالة بين فنسنت و ثيو ، و مع أن اللوحات تمثل مدرسة كبيرة أضافت و أعادت صياغة الكثير من جوانب الفن التشكيلي كما نعيه اليوم ، إلا أن تلك الرسائل بين الأخوين هي ما فاق الرسم عظمة ، و بقي شاهداً على أجمل صورة للصداقة لإخوة في السماء .
في إحدى القرى الصغيرة في هولندا ، و في أواسط القرن التاسع عشر ، عاش راعي رعية مع زوجته ، و كانت أحلامهم كبساطة السهول حولهم و ٱمالهم معلقة بنجمة في السماء تتجسد بصورة طفل ينير ما هو ٱتٍ من أيامهم ؛ اسم هذا المعلم كان "ويليام فان چوخ" .
و استجابت السماء و منحتهم طفلا ذكرا ، سمّوه "ڤِنسنت" ، أنار حياتهم للحظات ثم توفّته السماء و خبا نجمه ، لكن نوره -على خفوته- بقي كذكرى من مرارة و أمل . و في ذات التاريخ ، إنما بعد سنة ، سطع النجم مرة ثانية في حياتهم بنور طفل ، حمل كل ميراث أخيه من المهد و الملبس حتى الاسم ! و ما بين أفول نجم و سطوعه ، اشتعلت في روح الصغير حرب لعمر يأتي ، اسمها الصغير كان الحيرة ، و اسمها الكبير الجنون .
عاش ڤنسنت في الأرض سبعات خمسة من السنين بعد أن بدأت ذاكرته بالتخلق بعد سنيه الأولى ، لكن سبعاته الثلاثة الأولى كانت عجافاً . عنوان فترة طفولته مع المدرسة كان النفور ؛ نفوره من التعليم النمطي القاسي ، و نفور الآخرين من روح تمرده و "عصبيته" . هذا انتهى به إلى مفارقة مقاعد الدراسة خلال سبعتين من العمر . و في السنين السبعة التالية ، حاول ڤنسنت بتشجيع من أخيه الأصغر ثيودور أن يعمل في مجال التجارة الفنية . هذه كانت اللبنة الأولى في معرض تعرفه على أنماط الفنون في ذلك الزمان ، و على مساحة جغرافية انتقلت به بين هولندا و انكلترا و فرنسا . لكن هذا النفور المتبادل مع البشر ، خاصة في مجال تجاري ، أبسط عناوينه النفعية و المادية ، كان يصبح أعظم و ينتهي بروح ڤنسنت في حالة من العزلة في هذا الفيض من البشر ؛ الصورة الوحيدة التي كانت له التشجيع و التفهم و الحنان هي صورة أخيه "ثيو" .
مع نهاية السبعات العجاف و بداية السبعة الرابعة ، كانت رياح العمر قد ألقت بفنسنت إلى لندن ، و هناك كان في النفس حنين لصورة أبيه كمعلم ! هذا جعله يتفرغ لعلوم الدين ، فقرأ كل الكتب السماوية ، و تفانى في خدمة الرعية و التقرب من شخوص تلك المؤسسات ، و كان أول ما كلف به حلقة تعليم للأطفال الصغار ، و كانت هذه قمة السعادة لروحه و السطوع لنجمه ، حينما تحملت الأيام طبعه الناري و أوصلته لحلمه بصورة أبيه .
لكن هذا لم يدم طويلاً ، فحدّته و حدّيته و انتقاده اللاذع للكثير من الممارسات أدّت إلى حالة من الصراع مع كل من كان في طريق حياته من البشر ، حتى في مؤسسة رعوية تبشيرية . في بعض لوحات حياته ، كان يعطي كل ما ملك للمحتاجين ، و كان رد فعل المؤسسة الدينية على ذلك الجحود و التهميش ! هذا انتهى به منفياً في بلده مرة ثانية . و كمحاولة لإثبات الذات ، عاد إلى مقاعد الدرس في منتصف السبعة الرابعة من عمره لتعلم اللاهوت أصولاً ، لكنه لم يحتمِل ، و لم يُحتمَل ، لأكثر من سنة و نصف ! التزم فنسنت بعد ذلك بخدمة عمال المناجم و عائلاتهم في فرنسا ، و زاد تعلقه بهم و علا صوته في الدفاع عن مصالحهم ، حتى ضاق ذرع المؤسسة الدينية به ، و طردته نهائياً من خدمة البشر . جاهد فنسنت في سبيل الإبقاء على الاتصال مع المحتاجين ، لكن الفقر و الفاقة انتهيا به إلى ما يشبه معتزلات في قرى صغيرة ، و حالة من العوز و العزلة لأكثر من سنة .
ربما ما خطر ببال فنسنت يومها أن ما بقي من العمر إنّما هو سنوات عشر ، لكنه بالتأكيد لم يكن يرغب في يومه أن يرى الغد . صلته الوحيدة مع الكوكب كانت أخيه ثيو ، و في كل حرف كتبه في رسائلهما كانت دقائق عمره تزيد واحدة . أودع ڤنسنت كل ما كان على تلك الرقعة من الزمان من المصحات و المشافي النفسية و العقلية ، و حُجر عليه عدة مرّات ثم أطلق سراحه على وقع محاولات لأذى الذات أو شبهة انتحار . كانت روح ثيو ملازمة لروحه ، حتى أنه لبى نداء أخيه بالسفر إلى باريس ، و سكنا معاً و معهم زوجة ثيو "جوانا" و ابنهما الصغير الذي سمياه "ڤنسنت" تيمناً بعمّه .
قبل فنسنت تمويل أخيه له ، و عاد إلى مقاعد الدرس ، لكن هذه المرة لدراسة الفن ، و بتشجيع من ثيو و بعض رسامي ذلك الزمان استطاع أن يخطّ لوحاته الأولى التي لقيت نجاحاً في الأرض ما توقعه فنسنت يوماً ؛ حتى تلك اللوحات كانت عن الفلاحين و من صور معاناتهم ! كان ردّ فعله على أي انتقاد عنيفاً و كاسحاً ، لكنه مر بفترات من الرّضا ، و مع أنّه كان يرفض أي تغيير في منهج رسمه الواقعي (الأميل للمدرسة الوحشية / الصارخة) لحدّة طبعه و نفوره من تسلط الآخرين ، إلا أن لطف و عمق بعض رسامي ذلك الزمان من المدرسة الانطباعية جعلته يلين في رسمه حتى دمج في أواخر لوحاته أجمل الصور الارتجالية الوحشية في شكل تقديمي انطباعي فريد و أثير .
مع الأيام ، كانت نوب الجنون تعلو و تخبو ، لكنها كانت مع كل معاودة تصبح أعلى و أصخب ، و مع نهاية السبعة الخامسة ، أطلق فنسنت طلقة في صدره ، أسكنها قرب القلب ، كمّن يعطي لنفسه الوقت لتوديع لوحته الأخيرة ، و تلك كانت وجه أخيه ثيو . استطاع ڤنسنت مع الرصاصة في صدره أن يصمد زهاء يومين ليتحرك بين قريتين و يستدعي أخيه ليرتحل بين مدينتين ، ليودع الدنيا بين يديه . آخر جملة قالها فنسنت لأخيه : "الحزن يستمر إلى الأبد" !
حاول ثيو أن يدفن أخيه في مدافن العائلة ، لكن المؤسسة الدينية رفضت لأنه منتحر ، فدفن في مقبرة غرباء . بعد ذلك بستة أشهر مات ثيو ، و دفن بعيداً عن أخيه ، حتى قامت جوانا زوجته بنقل جثمانه إلى جانب أخيه بعد عقدين من الزمن لترتاح روحيهما باللقاء على الأرض و في السماء . جلّ ما نعرفه عن عبقرية تلك الأرواح هو ما نقلته جوانا ، زوجة ثيو ، و قارب الثمانمئة لوحة و السبعمئة رسالة بين فنسنت و ثيو ، و مع أن اللوحات تمثل مدرسة كبيرة أضافت و أعادت صياغة الكثير من جوانب الفن التشكيلي كما نعيه اليوم ، إلا أن تلك الرسائل بين الأخوين هي ما فاق الرسم عظمة ، و بقي شاهداً على أجمل صورة للصداقة لإخوة في السماء .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى