صحيفة نبض الشعب الاسبوعيه رئيس التحرير جعفر الخابوري
الأحد نوفمبر 19, 2023 9:03 pm
ثلاثون عاما، كان شجر الصفصاف يبيض و يخضر و يصفر في الحدائق، و طير الوقوق يغني للربيع كل عام.
ثلاثون عاما و قاعة البرت تغص كل ليلة بعشاق بيتهوفين و باخ، و المطابع تخرج الاف الكتب في الفن و الفكر. مسرحيات برنارد شو تمثل في الرويال كورت و الهيماركت. كانت ايدث ستول تغرد بالشعر، و مسرح البرنس اف ويلز يفيض بالشباب و الألق. البحر في مده و جزره في بورتمث و برايتن. و منطقه البحيرات تزدهي عاما بعد عام، الجزيره مثل لحن عذب، سعيد حزين، في تحول سرابي مع تحول الفصول، ثلاثون عاما و انا جزء من كل هذا، اعيش فيه، و لا احس جماله الحقيقي، و لا يعنيني منه الا ما يملا فراشي كل ليلة...
سألتني ونحن نشرب الشاي عن بلدي، رويت لها حكايات ملفقة عن صحاري ذهبية الرمال وأدغال تتصايح فيها حيوانات لا وجود لها. قلت لها أن شوارع عاصمة بلادي تعج بالأفيال والأسود وتزحف عليها التماسيح عند القيلولة، انقلبت في نظرها مخلوقاً بدائياً عارياً يمسك بيده رمحاً وبالأخرى نشاباً يصيد الفيلة والأسود في الأدغال
وسألتني: (ماجنسك؟ هل أنت أفريقي أم آسيوي؟) .
قلت لها: (أنا مثل عطيل . عربي أفريقي).
(نعم . هذا أنا, وجهي عربي كصحراء الربع الخالي ، ورأسي أفريقي يمور بطفولة شريرة.. انا صحراء الظمأ).
كانت عكسي تحن الى مناخات استوائية و شموس قاسية وافاق ارجوانية.. وانا جنوب يحن الى الشمال و الصقيع..
في المحكمة التي عُقِدتْ لمحاكمته بعد أن آعترف بقتل جين مورس، قال له القاضي في محكمة الأولد بيلي :" إنّك يا مستر مصطفى سعيد، رغم تفوّقك العلمي، رجل غبي . إنّ في تكوينك الروحي بقعة مظلمة".
وقال له أستاذه مرّة :"أنت يا مستر سعيد خير مثال على أنّ مهمّتنا الحضارية بأفريقيا عديمة الجدوى، فأنت بعد كلّ المجهودات التي بذلناها في تثقيفك كأنك تخرج من الغابة لأوّل مرّة"....
من رواية موسم الهجرة إلى الشمال
الطيب صالح
ثلاثون عاما و قاعة البرت تغص كل ليلة بعشاق بيتهوفين و باخ، و المطابع تخرج الاف الكتب في الفن و الفكر. مسرحيات برنارد شو تمثل في الرويال كورت و الهيماركت. كانت ايدث ستول تغرد بالشعر، و مسرح البرنس اف ويلز يفيض بالشباب و الألق. البحر في مده و جزره في بورتمث و برايتن. و منطقه البحيرات تزدهي عاما بعد عام، الجزيره مثل لحن عذب، سعيد حزين، في تحول سرابي مع تحول الفصول، ثلاثون عاما و انا جزء من كل هذا، اعيش فيه، و لا احس جماله الحقيقي، و لا يعنيني منه الا ما يملا فراشي كل ليلة...
سألتني ونحن نشرب الشاي عن بلدي، رويت لها حكايات ملفقة عن صحاري ذهبية الرمال وأدغال تتصايح فيها حيوانات لا وجود لها. قلت لها أن شوارع عاصمة بلادي تعج بالأفيال والأسود وتزحف عليها التماسيح عند القيلولة، انقلبت في نظرها مخلوقاً بدائياً عارياً يمسك بيده رمحاً وبالأخرى نشاباً يصيد الفيلة والأسود في الأدغال
وسألتني: (ماجنسك؟ هل أنت أفريقي أم آسيوي؟) .
قلت لها: (أنا مثل عطيل . عربي أفريقي).
(نعم . هذا أنا, وجهي عربي كصحراء الربع الخالي ، ورأسي أفريقي يمور بطفولة شريرة.. انا صحراء الظمأ).
كانت عكسي تحن الى مناخات استوائية و شموس قاسية وافاق ارجوانية.. وانا جنوب يحن الى الشمال و الصقيع..
في المحكمة التي عُقِدتْ لمحاكمته بعد أن آعترف بقتل جين مورس، قال له القاضي في محكمة الأولد بيلي :" إنّك يا مستر مصطفى سعيد، رغم تفوّقك العلمي، رجل غبي . إنّ في تكوينك الروحي بقعة مظلمة".
وقال له أستاذه مرّة :"أنت يا مستر سعيد خير مثال على أنّ مهمّتنا الحضارية بأفريقيا عديمة الجدوى، فأنت بعد كلّ المجهودات التي بذلناها في تثقيفك كأنك تخرج من الغابة لأوّل مرّة"....
من رواية موسم الهجرة إلى الشمال
الطيب صالح
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى